موجة هدم للأبنية القديمة في طرابلس: منارة ثقافيّة ومرجعيّة في العالم العربي تحت التّهديد، فهل من رادع؟
كتبت الصحافيّة “رودا بدر ” في الأحرار نيوز بعنوان “موجة هدم للأبنية القديمة في طرابلس: منارة ثقافيّة ومرجعيّة في العالم العربي تحت التّهديد، فهل من رادع؟”
في خضم المشهد السياسي والاقتصادي الذي يعصف بلبنان، هناك حرب غير معلنة تدور ضدّ هويّة أحد أقدم المدن في تاريخ الشرق الأوسط، مدينة طرابلس. تحت مسمّى “التّحديث” و”التّطوير العمراني”، يتمّ اليوم هدم جزءًا كبيرًا من تراث المدينة، بلا أيّ رادع، ليغيب معها تاريخ عريق وأصالة متجذّرة في أزمنة مختلفة من الزمن. هذه الحملة على قلب المدينة تُشكّل مجزرة حقيقيّة بحقّ تراثها المعماري، وهو التراث الذي ينتمي إلى عدّة حقبات حضاريّة، تتنوّع ما بين البيزنطي، المملوكي، والصليبي.أين نحن من ثقافة تعيش وتتطوّر، من طرابلس الّتي كانت تُعتبر منارة ثقافيّة ومرجعيّة في العالم العربي؟!
من حقّ سكان المدينة، ومن حقّ الجميع، أن يعبّروا عن غضبهم إزاء هذه العمليّات الهدّامة. “الزمن الجميل” يترحّم عليه الأهالي، حيث كانت تلك الأبنية التي ترعرعوا فيها والّتي حملت في جدرانها ذكريات التّاريخ العتيق، واليوم يتمّ تدميرها بيد من لا يقدّرون قيمة الثّقافة والتّراث.
لنأخذْ مثالًا بارزًا وهو مبنى “المير” عند مدخل طرابلس الزاهرية، الذي تمّ تحويله إلى موقف للسّيّارات، بينما كان من المفترض أن يكونَ شاهدًا على جمال وعراقة الهندسة المعماريّة في المدينة. هذا المبنى هو أحد أبرز الرّموز التاريخيّة الّتي تحتفظ بعبق ماضي المدينة الجميل، ليأتيَ اليوم التّحديث الوحشيّ ويحوّل مكانًا ذا قيمة حضاريّة إلى مجرّد مساحة لغرض تجاريّ لا طائل منه سوى تدمير المعالمَ الأصيلة.
من جهة أخرى، تقول السيّدة “جومانا شهال تدمري”، رئيسة جمعيّة تراث طرابلس لبنان، في تصريح ل *MTV*: “وزير الثقافة السّابق هو من منح التّرخيص للهدم”. هذا التّصريح يُعدّ جرس إنذارٍ للمسؤولين في لبنان، الّذين يبدون في بعض الأحيان غير مدركين لعواقب تدمير هذا التّراث الماديّ وغير الماديّ، ويحوّلون مدينة نابضة بالحياة إلى معالم الخراب.
الحديث هنا ليس عن تهديدات من الطّبيعة أو الظروف الجويّة، بل عن تسييح معماري وتخريب مُدبّر بأيدٍ بشريّة، تلك الأيدي الّتي تستغلّ تساهل الدّولة وتشجّع الاستثمارات الّتي لا تراعي البُعد الثقافيّ أو التاريخيّ للمكان.
اليوم، كما في الماضي، كان الطوفان الذي اجتاح أبو علي في عام ١٩٥٥ قد غيّر معالم المدينة، ولكن اليوم تواصل أيادي المستثمرين في “تجميل” المدينة بشكلٍ يعكسُ فقدانَ الهوية.إن غياب القانون وعدم وجود خطة متكاملة لتفادي هدم المزيد من المعالم التاريخية في طرابلس يشكل معضلة كبيرة. بل أكثر من ذلك، فتدمير تراثنا المعماري يساهم في إلغاء ذاكرة الجماعة وتراثها، وهو ما يتناقض تمامًا مع ضرورة الحفاظ على الهويّة الوطنيّة في زمن الانفتاح والعولمة.إنّ دور الدولة اليوم يتطلب أكثر من مجرّد تصريح سياسي، بل يتطلّب خطوات عمليّة تتضمن سنّ قوانين صارمة لحماية التراث الثقافي وتدعيم هذه القوانين بخطط استراتيجيّة واضحة لترميم المواقع التاريخيّة. طرابلس تحتاج إلى خطّة ثقافيّة شاملة تأخذ في الاعتبار كلّ المعالم والآثار التي تحتفظ بتاريخنا وتشكيلنا الاجتماعي.
نحتاج إلى معايير دوليّة تساعد في إبراز أهميّة حفظ هذا التراث الثقافي وضرورة تضافر الجهود الوطنيّة والدوليّة للحفاظ عليه.أخيرًا، تأتي صرخة مدينة طرابلس اليوم لتصل إلى وزير الثقافة *غسان سلامة*، مطالبة إيّاه بمراجعة القرارات السابقة وإعادة النظر في استراتيجيات الحفاظ على التراث. وها هي طرابلس اليوم تطالب بإعادة إدراج هذا التراث في قائمة التراث العالمي لدى *منظمة اليونسكو*، لتكون المدينة من جديد على خارطة الحضارة العالميّة وتستعيد مكانتها الثقافيّة المفقودة.
إنّ مستقبل طرابلس ليس مجرد ركام من الأبنية المعاصرة، بل هو امتداد لتاريخ طويل من العراقة والثقافة، الذي يحقّ لنا جميعًا أن نراه حيًا ومتجدّدًا، بعيدًا عن رياح التدمير والعشوائيّة. إنّ الحفاظ على هذا التراث هو مسؤوليّة جماعيّة، وعلى الجميع أن يتحملّها ليظلّ لبنان ينبض بجماله وهويّته الثقافيّة.