الحياد أو الإنحلال
قضية “أن يكون لنا دولة ومستقبل” هي مسؤولية وطنية وواجب ومشروع يستوجب أقصى درجات الجدّيّة والسَّعي والإقدام، وأعلى درجات الأهلية والوعي لفهم الواقع اللبناني وتركيبته الإجتماعية القائمة على التنوّع،
وكَوْن لبنان يضم جماعات متنوِّعة الدِّيانات والتقاليد ومتباينة الخيارات والمعتقدات، ومتعدِّدة الإنتماءات والإرتباطات الخارجية، وذلك حسب الدوافع العاطفية أو الدينية أو العقائدية،
فإننا لن نخرج من دائرة الخطر الدائم الذي يحوّل لبنان أرضاً خصبة للتدخلات الخارجية التي تعصف به وبإستقراره، ما لم نتوحّد حول الولاء المطلق والوحيد لدولة قادرة وعادلة وما لم نتفّق على صيغة الحياد القانوني والعلني تجاه الدّول العربيّة والإقليميّة،
وذلك في ظل النظام السياسي الحالي، أو في حال تم تطبيق اللامركزية الإدارية الموسعة، أو الفدرالية، أو غيرها من الأنظمة التي قد تكون مدخلاً لحلول مقبولة وجدية، ولكنها غير كافية ما لم تكن مُحَصَّنة بصيغة الحياد.
والحياد هو عمل من أعمال السيادة الوطنية للدولة التي تتبناه، وتقرر عدم الزج بنفسها في نزاعات مع الدول الأخرى، وهذا الموقف يؤمن لها الإستقرار في أمنها ومصالحها الوطنية، ومثال على ذلك دول كثيرة إعتمدت هذا المبدأ كسويسرا والنمسا وسينغافورة وغيرها.
وقد أثبتت التّجارب أنّ الشّعوب، وخاصّة الشعوب المعقّدة التركيب الإجتماعي، التي إحترمت المواثيق التي تعاقدت عليها لتحصين وحدتها وتثبيت ولائها للدّولة، تمكّنت من بناء دول مزدهرة ومستقرة، وخير مثال على ذلك هو التجربة السويسريّة والميثاق الذي أقرّته في ما بينها الشعوب المتباينة في العرق والدين واللّغة، والذي أمَّن لها المناعة وتضامن شعوبها الداخلي لمواجهة أيّ تدخل خارجي، وذلك ضمن صيغة الحياد الدّائم والمسلّح،
من هنا، لا يتحمّل لبنان إرتداد الصّدمات عليه جرّاء الخلافات التي تقسم الدول، ولا يمكنه أن يكون طرفاً أو شريكاً في هذه الخلافات من دون أن يعرّض نفسه للتمزّق والإنحلال،
فيأتي الحياد ليمنع تحويله الدّائم إلى مسرح حيث تصفّي القوى الإقليميّة والدّوليّة حساباتها، وحيث تتبارز وتتقاتل وتتحارب، ويمنع تحويله إلى أرض لحروب الآخرين، وإلى بقعة جغرافيّة تنحصر فيها، دون سواها، أعمال الإقتتال في سبيل قضايا عربيّة وإقليميّة وحتّى عالميّة.
د. بيار يونس